آخبار عاجل

رواية مايا  .. بقلم: محمد مصطفي الخياط

22 - 06 - 2021 10:48 823

الفصل الخامس


(أجمل ما في العطاء، ألا تعرف من تُعطى)


بيروت، خريف 2006


-    اسمى تونى؛ مسيحى. تربيت على عطاءات الشيخ رفيق الحريرى، رحمه الله، وتعلمت بفضل منحته الشهرية


-    ..........
قال السائق الذى أقلنى من مطار رفيق الحريرى إلى الفندق، أخذنا الحديث من موضوع إلى آخر، ربما أراد شيئاً من فضفضة مع غريب لا يعرفه ويضمن ألا يبوح بسره، وإن باح فلا أحد ممن سمع يعرف تونى. تمامًا عندما نجلس فُرادى أمام البحر، ثم تنساب شكاوانا في هدوء كأننا في غُرفِة الاعتراف، يسمع البحر؛ يهيج حينًا ويهدأ حينًا آخر، يبتلع أسرارنا، ولا يخبر بها أحدًا. حقًا، إنك الصديق الوفى أيها البحر، مهما سمعت ومهما رأيت؛ لا بوح، تتبدل الوجوه واللغات والحكايات، محاصر أنت بالمقهورين والمعذبين. من أين أتيت بهذه القدرة المذهلة على التحمل والكتمان.


-    لم تميز عطاءات الشيخ رفيق بين طوائف اللبنانيين. تقف الشاحنة على أول الشارع، ثم يبدأ العمال في التوزيع على البيوت بالترتيب دون تمييز


-    ..................
استطرد تونى مستاءً من حالة التشظى والانقسام السياسى؛ حينها فهمت معنى السُكر السياسى الذى عقب به أصدقائى عندما علموا بسفرى للعمل في لبنان، فرق أن تنزل البلد زائرًا وأن تحط بها مقيمًا، تلقيت أول درس على بوابة المطار وعلى يد أول لبنانى قابلته؛ سوف يظل هذا الدرس حاضرًا في ذهني، معبرًا في اختصار عن وهج وفعل السياسة في حياة اللبنانيين.


 مع طول الإقامة رأيت وعرفت كيف تُعجن الكلمات بخمر السياسة، وكيف تنضج أرغفتها وتحمر على حطب الانقسام في آتون الأحزاب، نُغَمِسُ بها جُبننا ومَزْاَت أفكارنا مع رشفات قهوتنا المرة لتغدو تفاصيل حياتنا؛ حتى تحية الصباح، ذات نكهة سياسية مميزة. لم أجد ما أعلق به على تونى وفى نفس الوقت آثرت التحفظ والتريث ريثما اتعرف أكثر على البيئة اللبنانية؛ فقلت معقباً؛


-    أجمل ما في العطاء، ألا تعرف من تُعطى


-    ...........
وما هي إلا أيام قضيتها في بيروت وحيدًا حتى تعرفت على مجموعة من الأصدقاء والمعارف؛ شلة الكورنيش، نتحلق في الصباح الباكر في مواجهة البحر صيفًا؛ تغسلنا ريحه المحملة بقطرات من رذاذ أمواجه المشبعة باليود، ونتقيها شتاءً في كافيتريا "أنكل ديك"، على الجانب المقابل للكورنيش؛ أسفل أحد العمارات المطلة على بحر بيروت، يفصله طريق أسفلتى مزدوج الاتجاه. لا تزيد مساحة المحل عن ثمانية أمتار مربعة؛ يتصدر مدخله أرفف البسكويت وماكينات القهوة بأنواعها ويتوارى خلفها ممر صغير يقودنا إلى سُلم حلزوني ضيق يوصلنا إلى الطابق الثانى. 

 


فى العادة لا يرتقى هذا الطابق سوى الزبائن المقربين؛ لذا تراه شبه خال إلا من كراسٍ تتناثر هنا وهناك رُص بعضها فوق بعض من دون نظام، مع طاولات مختلفة الأحجام. نصعد وقهوتنا في أيدينا، أو يتبعنا بها أحد العاملين مع بعض البسكويت. نجلس في مواجهة البحر، نتقى بزجاج النوافذ عنفوان رياحه وبرودتها. 

 


سنوات أعقبت سنوات وجلستنا تراوح موضعها بين الشاطئ والكافيتريا؛ بحسب الفصول، تتسع الحلقة وتنكمش بفعل السفر والانشغال والعمل وأحيانًا المرض، يذهب من يذهب فنطمأن أنه لا محالة عائد إلينا ما دام المجلس قائما وما دام شفيق في قلبه؛ نواة تتحلق حولها الإليكترونات، كلٌ في مداره ما لم تدخل السياسة بيننا، فإذا هبت، وكثيرًا ما كانت تهب ريحها، اختلط اليمين باليسار، واليسار باليمين، وما عدنا نعرف كيف نفصل بينهما.

 


الشاطئ في بيروت أشبه بالرئة، لا حياة لها من دونه؛ حوله وفيه تتجمع حكايات البيروتيين والسائحين، غنت له فيروز (شايف البحر شو كبير .. كبر البحر بحبك) وغنتها لى مايا ذات ليلة ونحو نتمشى إلى جواره، وحين داهمنا المطر وضعت سترتى عليها؛ لتصبح من بعدها الأكثر إيثارًا وقربًا من دون كل ملابسي، بما اختَزَنته من ريحها وعطرها وخلطتها السحرية، حتى إذا ما جاء أوان رحيلى من بيروت آثرت أن احملها معى في حقيبتى الصغيرة ولا أرسلها مع الصناديق عبر شركة الشحن، ربما خشيت أن افقدها من جهة، ورغبةً أن تظل قريبة منى من جهة أخرى. 

 


رابط سحرى يربط البحر بأهل بيروت وزوارها، من يقترب منه يقع في هواه ولسان حاله يقول من (حام حول الحمى أوشك أن يواقعه)، كم مرة أطلقنا لخيالنا -أنا ومايا- العنان؛ ماذا لو مشينا بمحاذاة الكورنيش دون توقف؛ ودون اعتبار لعوائق، مرة يسارًا حتى نصل إلى الاسكندرية، ومرة يمينًا حيث شواطئ مارسيليا؛ وها نحن نتخيل كيف نبيت ليالينا في الغابات والصحاري والمدن التي تقابلنا، وكيف نختبئ من الوحوش، وكيف نواجه المخاطر حتى ننعم في النهاية بفرح الوصول إلى ما سافرنا من أجله. خيالٌ ونزق محبين عاشقين.

 


يمتد الكورنيش دون عوائق تعترض البصر، تتوزع بطوله حلقات من بعد حلقات؛ رجالاً ونساء، شيوخًا وشبابا، صبايا وصبيان، وبينهم تتوزع أساسيات الجلسة وركائزها، نرجيلة وقهوة وكعك وسياسة.

 


تختلط روائح القهوة بنكهات الدخان الممزوج بروائح الفواكه؛ خوخ، وتوت، ورمان بينما يتعاقرون حديثهم الدائم والمُلح عن السياسة دون ملل، قلت ضاحكًا ومداعبًا الحاج سعيد؛

 


-    ع بكره بنلاقى أرجيلة بنكهة السياسة


أُغرق في الضحك واهتز كرشه الذي زاده الجلوس على كرسي منخفض تكورًا، ثم رفع قلنسوته الصوفية بيسراه هارشًا رأسه الأصلع الضخم بيمناه وبادرنى معلقا،
-    بَدنا معسل بنكهة تيار المستقبل، وحِزِب ألله، واربعتاش آذار


ثم يعاود ضحكه فيهتز بدنه بشده ويضحك باقى الحضور، شفيق، وأبو فادى، وميشيل، بينما يتجهم سيدانى، ويعقب أبو فادى وما زال آثار الضحك على وجهه؛
-    لا تواخذنا يا سيدانى، بدنا نضحك شوي


فيرد عليه بشيء من ضيق لم يفلح في مداراته،


-    ولو .. براحتكم .. طقة حَنَك


لا يستطيع سيدانى إخفاء تبرمه وضيقه وأحيانًا غضبه حين يمر الحديث بدعابة على ذكر حزب الله أو أحد رجالاته. نحيف الجسم، بين الطول والقصر، ممصوص الوجه، نابت شعر الذقن؛ يحرص على تسويته أولاً بأول فلا يزيد طوله عن ملليمترين، صارم الملامح، ذو بشرة بيضاء، جاوز الأربعين بقليل، ويرى العالم من خلف نظارة طبية سميكة.


رابط خفى يربط هذه الصحبة؛ أعمار وديانات وانتماءات متفاوتة، يضحكون حينا ويصخبون حينا آخر حتى تظن أن الكورنيش سوف يصبح في الغد وقد خلى منهم فإذا ما انبلج الصباح، وبان الخيط الأبيض من الخيط الأسود، إذا هم مجتمعون، بذات الوجوه وذات السمات وذات الطباع، تهدأ الجلسة قليلاً فيلقى عليها الحاج سعيد بعضًا من وقود حديثه حسبما اتفق؛ مرة تجاه أبو فادى أو هارون الرشيد كما اعتاد أن يطلق عليه، رمز الاستثمار الناجح اجتماعيًا وعمليًا في نظر الحاج، وأحيانا ميشيل مُعرِضًا بطقس من طقوسه أو مشاغبًا إياه؛


-    ما شفناك بصلاة الفجر اليوم يا ميشيل ؟


فيضحك كعادته دون صوت ويجيب ببديهة سريعة،


-    والله ظنيتك بتشاركنى صلاة باكر في الكاتدرائية


ومع هذا يظل سيدانى الأكثر إثارة لمشاكسة الحاج، والعكس صحيح؛ كأنهما قط وفأر؛ شئ خفى يجذبهما إلى المشاكسة والمناقرة، كأنما عُجنا بجينات التحفز ضد بعضهما البعض فصارا لا يستطيعان تجاهلها؛ يكظم سيدانى غيظه ويشرد بعينيه من خلف نظارته تجاه البحر وطيور النورس وأحيانا يستأذن فنعاتب سعيد أنْ أثقل عليه؛ متوجسين أن ينصرف إلى غير رجعة؛ فيعقب متحسسًا كرشه،


-    ع بكره بتلاقوه أول واحد، ما إله غيرنا


ثم يردف؛

 


-    ضل لينا إشى عشرين سنة على ها الحال، والله بخاف ما أناغشه فينقطع عنا
ثم يغرق في ضحكه مرة أخرى لافتًا انتباه المارة والمتريضين من حولنا؛ ودائمًا يصدق ظنه، ما إن يهل الغد حتى نجد سيدانى أول المتحلقين إلى جوار قطب الحلقة ومركز دورانها، شفيق. مضت سنوات طويلة ونحن على هذه الحال حتى اعتدناها، بهدوئها وصخبها.

 

وذات يوم ونحن جلوس على الشاطئ ونسمات الربيع تداعب وجوهنا وطيور النورس تحلق باحثة عن طعامها في جوف البحر، مد شفيق يده بفنجان القهوة كعادته، فتناولته شاكرًا ثم حانت منى التفاتة على غير هدي ناحية الكورنيش، ثم وجهت وجهي نحو البحر، لكن شيئًا ما عَلِقَ بعيني، شيء يصعب تجاوزه، طرق ذاكرتي وأشعل فتيل البحث، شيء جعلني أردد في نفسي؛


-    أعرف صاحبة هذا الوجه !!


وما أن اقتربت أكثر حتى صارت ملامحها أكثر وضوحًا، تمتمت في نفسي


-    مايا، نعم هي هي 


وكأني أرشميدس حين صاح فرحًا (وجدتها.. وجدتها).


كانت مقبلة تجاهنا تعدو بلباسها الرياضى وقد تسربل وجهها المشرب بلون الخوخ الـمُطعم ببعض النمش بالعرق وانسدل على رقبتها حتى بوابة صدرها المكتنز، لوحت لها عندما اقتربت؛ هدأت من خطوها ووقفت تلهث ملقية تحية الصباح ثم قالت؛


-     ها الحين تذكرت وين شفتك !!


فأجبت مبتسمًا وبلهجة مصرية خالصة


-    الحال من بعضه

 


ثم أردفت، وقد لاحظت تحفزها لاستكمال رياضتها،

 


-    ما بدى أعطلك .. أشوفك بالمكتب .. عازمك ع قهوة


فقالت وهى تعاود عدوها وتجيبني مُثنية عنقها نحوي


-    أوكى.. والحلو من عندي


-    .............


ثم مضت تعدو وقد رسم سروالها المطاطى حدودها مراعيًا التفاصيل فيما ظهر منها وما بطن، وكأنما أقسم ألا يقول سوي الحقيقة، ما ظهر منها وما بطن، حينها انطلق صوت شفيق عاليا بلزمته التى لا تفارقه صباحًا أو مساءً


-    صباحوووو ..


يمطها قدر استطاعته مُعلقًا في ذيلها أجراس السعادة، وفى ساقيها خلاخيل الفرح، فلم يملك الحاج سعيد نفسه إذ رفع قلنسوته وراح يهرش كعادته قبل إطلاق قذائف تعليقاته ثم نَقَلَ عينيه بينى وبين أبو فادى، الذى لا تُذكر النساء أمام الحاج إلا ويعَرِضْ به، وقال،


-    إذا الحلو مش من عَندِك يبقي من عند مين


ثم أشار نحوي بذقنه وأردف ضاحكًا،


-    طلع عنا هارون رشيد ثانى


فأغرق الجميع في الضحك حتى سيدانى ضحك وأغرورقت عيناه ورفع نظارته السميكة ومسح دمعهما بسبابتيه فارتفع ضحكنا ووجوهنا كلنا معلقة به.

 


إلى لقاء في فصل جديد
 



شبكة Gulf 24 منصة إعلامية متميزة تغطى أخبار دول مجلس التعاون الخليجي والوطن العربي والعالم تضم بين صفحاتها الرقمية وأبوابها المتنوعة كل ما تحتاجه لتصبح قريباً من ميدان الحدث حيث نوافيك على مدار الساعة بالخبر والتحليل ونسعى أن نصبح نافذتك إلاخبارية التى تمنحك رؤية راصدة تجعل العالم بين يديك ومهما كانت افكارك واهتماماتك. سواء في حقل السياسية، الاقتصاد، الثقافة

جميع الحقوق محفوظه لشبكه Gulf 24 الاخبارية

Gulf 24 © Copyright 2018, All Rights Reserved